فصل: طوال السور وقصارها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.طوال السور وقصارها:

135 - ونحن نتكلم في الإيجاز والإطناب لا بد أن نمس موضوع السور الطوال والسور القصار. لقد علمت مما قدمناه جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإعادة جمع ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مصحف جامع، وما أعاد به عثمان جمع ما جمع أبو بكر وعمر. ونشر نسخ مما جمع في الأقاليم للمسلمين.
وقد قررنا في ذلك أن الإجماع أن السور رتبت بوحي إلهي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن قرأه على جبريل عليه السلام بذلك الترتيب وذلك موضع إجماع، بل موضع تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ترتيب السور في المصحف العثماني كان بهذا الترتيب الذي نقرؤه.
وأن هذا الترتيب في آيات السورة الواحدة لم يكن على حسب النزول، بل كان كما ذكرنا بالوحي فكانت الآية إذا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام لكتابه وصحابته: ضعوها في موضع كذا من سورة كذا، وكذلك لم يكن ترتيب السور فيما بينها تابعًا لنزول الوحي، بل كان بوحي توجيهي لوضع السور في أماكنها، فإذا كانت السور الطوال في هذه المواضع من القرآن، والسور القصار في هذا الموضع من الطرف الأخير فيه، فإنَّ ذلك بتوجيه من الله سبحانه وتعالى.
وكان من المستحسن أن نتكلم في هذا لا في مقدار البلاغة فيها، فالجميع سواء، ولكن من حيث الحكمة إن أمكن أن يؤدي تطاولنا إلى معنى ندركه، فكتاب الله فوق طاقتنا في إدراك مراميه كلها؛ لأنها إرادة الله تعالى، وهي لا تقبل التعليل؛ لأنه لا يسأل عمَّا يفعل، وعباده هم الذين يسألون.
ولكن مع ذلك نحاول أن نتعرَّف حكمة الله تعالى أو ما نراه من أواصف للسور الطوال وأخواتها القصار.
إننا نجد في قصار السور وصفين:
أحدهما: إنَّ نظم السور القصار كله يكاد يكون على نسق واحد مؤتلف النغم متآخي الألفاظ متلائم في نظمه، اقرأ قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا، كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 1 - 15].
وإنك لترى النغم متحدًا، والفواصل متحدة، والتلاؤم بين ألفاظها منهاجه واحد، وكأنها لقصرها لا تتغير فيها الأنغام ولا مقاطع الكلام.
الثاني: من الأوصاف الواضحة في السور القصار إيجاز القصر، فتجد القصة من قصص القرآن تذكر في كلمات جامعة، ويبعد فيها الأسلوب عن الإطناب في القصة لحالها في مواضع من القرآن الكريم، وكلها معجز ببيانه وبلاغته.
اقرأ قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 1 - 16].
وترى من هذا كيف كان الإيجاز المعجز، لقد أشار سبحانه وتعالى - إلى قصة عاد وثمود وفرعون، وقد وصف طغيانهم كما وصف قوتهم في صنائعم، وصلابة أرضهم، وكل ذلك في إيجاز.
والسور القصيرة كلها في موضوع واحد، كما ترى قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: كلها].
وكما في سورة الفيل في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل: 1 - 4].
وكسورة قريش: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: كلها].
وإننا نرى أنَّ الجزء الأخير في ترتيب القرآن الكريم الذي اختص باشتماله على قصار السور، والذي يسهل حفظه على الناشئين الذين لا يريدون جمع القرآن في صدورهم، قد اشتمل على بيان العقيدة الإسلامية، وعلى معاندة قريش، وعلى جهود النبي صلى الله عليه وسلم، وما لاقاه من عنت في قومه، وعلى المبادئ الاجتماعية، وفيه إجمال كامل لقصص القرآن الكريم.
هذا شأن قصار السور، وهي جزء من ثلاثين من القرآن الكريم، أمَّا الطوال والمتوسط والأقرب إلى الطول والأقرب إلى القصر فهو يشمل نحو تسعة وعشرين جزءًا من ثلاثين جزءًا من القرآن.
وإن السور المدنية أكثرها ليس من القصار، وهو يشتمل على الأحكام التفصيلية للتكليفات الشرعية، فسورة البقرة والنساء والمائدة فيها كثير من الأحكام الفقهية سواء أكانت في الأسرة أم في المعاملات المالية، أم في الزواجر الاجتماعية، أم في العلامات الدولية، وأحكام الجهاد، وفيها كل ما يتَّصل بالسلوك الإنساني الذي فرضه القرآن الكريم، وبعض التكليفات المتعلقة بالأسرة، أو المعاملات المالية، جاء في السور التي بين القصر والطول؛ كسورة الممتحنة وكسورة الطلاق.
وإنَّ السور الطويلة أو القريبة منها مع أنَّها ليست مرتَّبة على حسب النزول بالوحي، بل هي كما ذكرنا مرتبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي عن ربه؛ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يأمر بوضع الآية عند نزول الوحي في موضعها من السورة التي أمر بوضعها فيها.
ومع هذا الترتيب الموحى به الذي لم يكن على حسب النزول نجد السورة كلها مترابطة الأجزاء متصلة، يأخذ بعضها بحجز بعض في نسق بياني رائع، وكل آية مرتبطة برباط معنوي وبياني، فالآية تتبع ما قبلها، لا في الموضوع، ولكن في نظام يشبه تداعي المعاني، فالآيات تثير في النفس المؤمنة المتبعة خواطر تجيء التي تليها لإشباعها، وكأنها تجيء في وقت الحاجة إليها، فيكون التناسق القرآني في الألفاظ والأنغام الفواصل والمعاني. وكل ذلك من أسرار الإعجاز الذي لا يمكن أن يكون إلَّا إذا كان القرآن كله من عند الله العزيز الحكيم القادر على كل شيء، الذي اختار القرآن معجزة صفيه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.

.القصار وتيسير الحفظ:

136 - يأمرنا الله تعالى بأن نحفظ ما تيسر من القرآن؛ لأنه سبحانه وتعالى - قال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وأنه سهل سبحانه وتعالى - علينا أن نحفظ المتيسر حفظه من القرآن، فكانت تلك السور القصار الموجزة في ألفاظها الغزيرة المعاني في مرادها، وهذا المعنى ذكره المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رضي الله عنه في كتابه (إعجاز القرآن)، ولنترك الكلمة له فقد قال: إن لهذه السور القصار لأمرًا، وإن لها في القرآن لحكمة، ومن أعجب ما ينتهي إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلَّا موقع الأدلة الإلهية المعجزة، فهي لم تنزل متتابعة في نسق واحد على هذا الترتيب الذي نراه في المصحف؛ إذ لم يكن أول ما نزول من القرآن ولا آخره: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم هي - أي القصار من السور - بجملتها وعلى إحصائها لا تبلغ من القرآن أكثر من جزء، والقرآن كله ثلاثون جزءًا، وهو يتسع من بعدها قليلًا قليلًا، حتى ينتهي إلى الطول، فقد علم الله أنَّ كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول، فيسّره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها في المنفعة، وأولها في المنزلة، هذه السور التي تخرج من الكلمات إلى الآيات القليلة، والتي هي مع ذلك أكثر ما تجيء آياتها على فاصلة واحدة أو فواصل قليلة، لا يضيق بها نفس الطفل الصغير، وهي تتماسك في ذاكرته بهذه الفواصل التي تأتي على حرف واحد أو حرفين، أو حروف قليلة متقاربة، فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه ويثبت أثره في نفسه، فلا يكون بعد إلَّا أن يمر فيه مرا، وهو كلما تقدم وجده أسهل عليه، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ، فهذا معنى قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وهي لعمر الله رحمة وأيّ رحمة.
وإذا أردت أن تبلغ عجبًا من هذا فتأمَّل آخر سورة في القرآن وأول ما يحفظه الأطفال - أي: بعد الفاتحة - وهي سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، وانظر كيف جاءت في نظمها، وكيف تكرَّرت الفاصلة، وهي لفظ الناس، وكيف لا ترى في فواصلها، إلا هذا الحرف (السين) الذي هو أشد الحروف صفيرًا، وأطربها موقعًا من سمع الطفل الصغير، وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف يناسب مقاطع السورة عند النطق تردد النفس في أصغر طفل يقوى على الكلام، حتى كأنَّها تجري معه، وكأنها فصلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها، ثم انظر كيف يجيء ما فوقها على الوجه الذي أشرنا إليه، وكيف تمَّت الحكمة على هذا الترتيب العجيب.
وهذه السور القصار لو لم تكن في القرآن كلها أو بعضها ما نقضت شيئًا من خصائصه في الإيجاز، ولكن عسى أن يكون الأمر في حفظه على غير ما ترى إذا هي لم تكن فيه، فتبارك الله سبحانه {مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}.
ويضاف إلى هذه الحكمة فائدة أخرى، وهي تيسير القرآن، وأداء الصلاة على العامة، فإنهم لولا هذه السور الصغار لتركوا الصلاة جميعًا، وأنه لا تصح الصلاة - أي كاملة - إلا بآيات مع الفاتحة، وقد أعانت الصغار ويسرت عليهم فكانت على قلتها معجزة اجتماعية كبرى. انتهى كلام الرافعي.
137 - وإذا كانت ثمَّة سور طوال وأخرى قصار، فإنه يجب علينا أن نلتفت إلى أن هناك آيات تطول وآيات تقصر، مع أنَّ الإيجاز والإطناب يكون في طوال الآيات وقصير، ففي أثناء الآية الطويلة تقرأ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وهي كلمات ذات معانٍ غزيرة، فيها حكمة شرع الله وغايته، وتكليفاته، وأنها تتجه إلى التيسير ولا تتجه إلى التعسير.
وأكثر الآيات الطوال تكون في الأحكام التكليفية التي تحتاج إلى التوضيح، ولا يكتفي فيها بالإجمال بدل التفصيل؛ كآية المحرمات في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24].
ومثل ذلك آية المداينة، وهي أطول آية في القرآن، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
وقريب منها في الطول آية المحرَّمات كما أشرنا، ومثلهما آيات المواريث، ومن الآيات الطوال المبينة للأحكام التكليفية آيات الصوم. اقرأ قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [القرة: 185 - 187].
وترى أن الآيات الأخيرة فيها بيان جزء من أحكام الصوم، ولا تعد قصيرة، بل طويلة، ومن الآيات الطويلة بعض آيات القصص، ومن ذلك قوله تعالى في قصة بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].
وإنا إذ نقول أن بعض الآيات فيها طول، وبعض الآيات الكريمات فيها قصر، ليس معناه أنَّ ما فيه طول هو من قبيل التطويل في الكلام، بل هو من قبيل الإطناب الذي لا تجد فيه كلمة زائدة، ولا تجد فيه عبارة ليس ثمة حاجة إليها، بل إن الآية التي يكون فيها تطويل قد تجيء في جملة ما هو من قبيل إيجاز القصر مثل قوله تعالى في ثناء آية الصوم الطويلة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} كما ذكرنا آنفًا.
وليس المراد بالطويل، أن تكون الألفاظ أكثر من المعاني، بل المراد ما لا يتجاوز حد الإطناب البليغ المستحسن، فالمعاني مع الألفاظ متكافئة، وربما كان فيها إيجاز لا إطناب فيها فضلًا عن التطويل، والطول للآية يعطيها ألفاظًا كثيرة ومعاني كثيرة، ربما تكون أكثر من الألفاظ.
وإنَّ الطول لا يبعد عن حلاوة النغم، وجمال النسق، وحسن النظم، وحلاوته، ومن الآيات ما يكون قصيرًا كما ذكرنا، والفواصل متآخية، والمعاني متكاملة. اقرأ قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى، قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه: 83 - 87].
وترى أن هذه الآيات بعضها قصار، والأخير كان منها طويلًا نسبيًّا؛ لأن فيها عتابًا، وطبيعة العتاب لا يكون قصيرًا، ولا يكون بالإشارة.
واقرأ قوله تعالى في هذه السورة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا، يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 105 - 111].
وإننا نجد في الظاهرة القرآنية العالية أنَّ الآيات القصار تختص عن غيرها بأنَّ لها خاصة وهي الاعتبار والوقوف عند فواصلها المقاربة غير المتباعدة، فتكون وقفة يقضي السكون عندها، فالجواب عن حال الجبال وهي أوتاد الأرض وبها تتماسك بأمر الله تعالى، بأنَّ الله تعالى ينسفها نسفًا، وفي هذه الوقفة الصامتة بتدبر أمر الله في نسف الجبال، ليس بها علوّ بتضاريس، ولا انخفاض بجوار علوّ، وهكذا تتبع الآيات القصير، والوقوف عند آخر كل آية، وكأن الله سبحانه وتعالى - يدعوك إلى أن تقف لتتدبر وتتفكر، وتعرف مآلك، وأنه لا غرابة في أن تعاد الأجسام يوم البعث والنشور.
وإن الآيات الطوال تكون في موضوع يحتاج إلى التدبر في أوله وآخره، وأخذه جميعًا، كما رأينا في آيات الأحكام، وفي بعض القصص الذي يكون التدبر في مجموعه لا في آحاده، وفيه يتلاحق آخره بأوله، كما رأينا في النعم التي أفاض الله بها على بني إسرائيل، وكيف لاقوها بالكفران والعتو عتوًا كبيرًا.
وقد رأينا في الآيات القصار أنَّ كل آية تصلح وحدها لِأَنْ تكون موضع تدبر، بل يلزم فيها التدبر وإن كانت متصلة بما بعدها وثيقة الاتصال.
ولنتل عليك بعض الآيات القصار، من ذلك قوله تعالى في سورة ص: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ، وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ، وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ، اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ} [ص: 12 - 25].
وهنا نجد الآيات كلها تتلاقى في العبرة وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار النبيين، وما كان من أقوامهم معهم، وذكرت بعض قصة داود عليه السلام، وما يتعلق بحكمه، ومتاعبه من الخصوم، ثم حكمه وخطئه فيه.
هذا كله معنى متلاحق الأجزاء بعضه يتمم بعضه، ويتكوّن من الجميع صورة بيانية تستولي على لب الناظر إليها، والمتفهِّم لمعناها، ولكن في الآيات القصار أجزاء كاملة في ذاتها، وأن تكون من مجموعها كل كامل غير منقطع، فاقرأ من قصة داود عليه السلام أول ما أورد، تجد قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} فهذه صورة كاملة لنبي من أنبياء الله تعالى، آتاه الله تعالى السلطان القويّ المؤيد الثابت القائم على الحق، وتلك وحدها صورة بيانية تستدعي التدبر فيها، وجاء بها القرآن الكريم مفصولة في الفاصلة عمَّا وراءها؛ لأنها وحدها يجب تدبرها؛ لاجتماع الدنيا والدين في رسول رب العالمين، فلا يحسبنَّ أحد أن الزهد في الفقر والحاجة، إنما الزهد في العفة؛ حيث تكون القدرة، ثم جاءت الآية التي تليها مبينة مقدار قوته تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} فهي له خاضعة، ثم الطير محشورة، وهكذا كانت الفواصل معلنة أن ما قبلها يدعو إلى تدبره والتفكير فيه.
وقد تكون في الآيات القصار آية بين كل آية، وأخرى تدعو إلى التفكير بصراحة، كما دعت فواصل الآيات إلى التدبر في ميزات الفاصلة، اقرأ قوله تعالى في سورة الرحمن:
{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ، وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ، فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 1 - 21].
هذه نصوص قرآنية من الآيات القصار تجد كل آية منها تدعو إلى التدبر والتفكير فيما تدعو إليه وما تدل عليه، وقد كانت الفاصلة منبّهة إلى الترويّ في معناه، والتدبر في مغزاه، وهي متضامنة مع سابقتها ولاحقتها لتأتي بمعنى كلي جامع، وصورة بيانية رائعة.
وهكذا تكون آيات القرآن وألفاظه وجمله، وكله إعجاز في إعجاز، تدل على أنه من اللطيف الخبير العزيز الحكيم السميع البصير.